سورة الصافات - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{أولئك} إشارة إلى العباد المخلصين، وقوله تعالى: {معلوم}، معناه عندهم فقد قرت عيونهم بعلم ما يستدر عليهم من الرزق وبأن شهواتهم تأتيهم لحينها، وإلا فلو كان ذلك معلوماً عند الله تعالى فقط لما تخصص أهل المدينة بشيء وقوله {وهم مكرمون} تتميم بليغ للنعيم لأنه رب مرزوق غير مكرم، وذلك أعظم التنكيد، والسرر جمع سرير، وقرأ أبو السمال {على سرَر} بفتح الراء الأولى، وفي هذا التقابل حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أحيان «وترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض، ولا محالة أن بعض أحيانهم فيها متخيرون في قصورهم»، و{يطاف} معناه يطوف الوالدان حسبما فسرته آية أخرى، والكأس قال الزجاج والطبري وغيرهما: هو الإناء الذي فيه خمر أو ما يجري مجراه من الأنبذة ونحوها، ولا تسمى كأساً إلا وفيها هذا المشروب المذكور، وقال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر، وذهب بعض الناس إلى أن الكأس آنية مخصوصة في الأواني وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى في ذلك كونه بخمر أم لا، وقوله تعالى: {من معين} يريد من جار مطرد، فالميم في {معين} أصلية لأنه من الماء المعين، ويحتمل أن يكون من العين فتكون الميم زائدة أي مما يعين بالعين مستور ولا في خزن، وخمر الدنيا إنما هي معصورة مختزنة، وخمر الآخرة جارية أنهاراً، وقوله {بيضاء} يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو الأظهر، وقال الحسن بن أبي الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن، وفي قراءة عبد الله بن مسعود {صفراء} فهذا موصوف به الخمر وحدها، وقوله تعالى {لذة} أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعاً، وقد استعمل هذا حتى قيل لذ بمعنى لذيذ، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
بحديثك اللذ الذي لو كلّمت *** أسد الفلاة به أتين سراعا
وقوله {ولا فيها غول}، لم تعمل {لا} لأن الظرف حال بينها وبين ما شأن التبرية أن تعمل فيه والغول اسم عام في الأذى، يقال غاله كذا إذا أضره في خفاء، ومنه الغيلة في القتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاع «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة» ومن اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
مضى أولونا ناعمين بعيشهم *** جميعاً وغالتني بمكة غول
أي عاقتني عوائق، فهذا معنى من معاني الغول، ومنه قول العرب، في مثل من الأمثال،ماله غيل ما أغاله يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه، أو الرجل يدعى له بأن يؤذي ما آذاه، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد في الآية الغول وجع في البطن، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة: هو صداع في الرأس.
قال القاضي أبو محمد: والاسم أعم من هذا كله فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى إذا هي موجودة في خمر الدنيا، نحا إلى هذا العموم سعيد بن جبير، ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
وما زالت الخمر تغتالنا *** وتذهب بالأول الأول
أي تؤذينا بذهاب العقل، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {ينزَفون} بفتح الزاي وكذلك في سورة الواقعة من قوله نزف الرجل إذا سكر ونزفته الخمر، والنزيف السكران ومنه قول الشاعر [جميل بن معمر]: [الكامل]
فلثمت فاها آخذاً بقرونها *** شرب النزيف لبرد ماء الحشرج
وبذهاب العقل فسر ابن عباس وقتادة {ينزفون}، وقرأ حمزة والكسائي {ينزِفون} بكسر الزاي وكذلك في الواقعة من أنزف ينزف ويقال أنزف بمعنيين أحدها سكر ومنه قال الأبيرد الرياحي. [الطويل]
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ *** لبيس الندامى أنتمُ آل أبجرا
والثاني: نزف شرابه يقال أنزف الرجل إذا تمّ شرابه فهذا كله منفي عن أهل الجنة، وقرأ عاصم هنا بفتح الزاي وفي الواقعة بكسر الزاي، وقرأ ابن أبي إسحاق {يَنزِفون} بفتح الياء وكسر الزاي، و{قاصرات الطرف} قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة على أزواجهن أي لا ينظرن إلى غيرهم ولا يمتد طرف إحداهن إلى أجنبي، فهذا هو قصر الطرف، و{عين} جمع عيناء وهي الكبيرة العينين في جمال، وأما قوله {كأنهن بيض مكنون} فاختلف الناس في الشيء المشبه به ما هو، فقال السدي وابن جبير شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وزهو بياض قد خالطته صفرة حسنة، قالوا: والبيض نفسه في الأغلب هو المكنون بالريش ومتى شدت به حال فلم يكن مكنوناً خرج عن أن يشبه به، وهذا قول الحسن وابن زيد، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كبكر مقاناة البياض بصفرة *** غذاها نمير المال غير محلل
وهذه المعنى كثير في أشعار العرب، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري، البيض المكنون أراد به الجوهر المصون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يصح عندي عن ابن عباس لأنه يرده اللفظ من الآية، وقالت فرقة إنما شبههن تعالى ب البيض المكنون تشبيهاً عاماً جملة المرأة بجملة البيضة وأراد بذلك تناسب أجزاء المرأة وأن كل جزاء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائه إلى نوعه فنسبة شعرها إلى عينها مستوية إذ هما غاية في نوعهما، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء، لأنك من حيث جئتها فالنظر فيها واحد.


هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها، ثم أخبر الله تعالى عن قول {قائل منهم} في قصته فهو مثال لكل من له {قرين} سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء، واستشعار معصيتهم وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمراً متيقناً حاصلاً لا محالة، وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر، وقالت فرقة: هما اللذان ذكر الله تعالى في قوله {يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} [الفرقان: 28] وقال مجاهد كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أصوب، وقرأ جمهور الناس {من المصدقين} بتخفيف الصاد من التصديق، وقرأت فرقة {من المصّدقين} بشد الصاد من التصدق، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين إنهم كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما يعبد الله ويقصد من التجارة والنظر وكان الآخر كافراً مقبلاً على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن ثم إنه جعل كلما اشترى شيئاً من دار وجارية وبستان ونحوه عرضه على ذلك المؤمن وفخر عليه به فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك الثمن ليشتري به من الله في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية، قال الطبري: وهذا الحديث يؤيد قراءة من قرأ {من المصّدّقين} بتشديد الصاد، و{مدينون} معناه مجازون محاسبون قاله ابن عباس وقتادة والسدي، والدين الجزاء وقد تقدم.


في الكلام حذف تقديره فقال لهذا الرجل حاضرون من الملائكة إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك {هل أنتم مطلعون}، ويحتمل أن يخاطب ب {أنتم} الملائكة، ويحتمل أن يخاطب رفقاءه في الجنة، ويحتمل أن يخاطب خدمته وكل هذا، حكى المهدوي وقرأ جمهور القراء {مطَّلعون} بفتح الطاء وشدها، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين {مطْلعونَ} بسكون الطاء وفتح النون، وقرأ أبو البرهسم بسكون الطاء وكسر النون علي أنها ضمير المتكلم ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها، وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم، والوجه أن يقال مطلعي، ووجه القراءة أبو الفتح بن جني وقال: أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع، وأنشد الطبري: [الوافر]
وما أدري وظن كل ظن *** أمسلمني إلى قومي شراحي
وقال الفراء: يريد شراحيل، وقرأ الجمهور {فاطّلع} بصلة الألف وشد الطاء المفتوحة، وقرأ أبو عمرو في رواية حسن {فأُطْلِع} بضم الألف وسكون الطاء وكسر اللام، وهي قراءة أبي البرهسم، قال الزجاج هي قراءة من قرأ {مطلِعون} بكسر اللام، وروي أن لأهل الجنة كوى وطاقات يشرفون منها على أهل النار إذا شاؤوا على جهة النقمة والعبر لأنهم لهم في عذاب أهل الناس وتوبيخهم سرور وراحة، حكاه الرماني عن أبي علي، و{سواء الجحيم} وسطه قال ابن عباس والحسن: والناس، وسمي {سواء} لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، و{الجحيم} متراكم جمر النار، وروي عن مطرف بن عبد الله وخليد العصري أنه رآه قد تغير خبره وسيره أي تبدلت حاله ولولا ما عرفه الله إياه لم يميزه، فقال له المؤمن عند ذلك {تالله إن كدت لتردين} أي لتهلكني بإغوائك، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
أفي الطوف خفت علي الردى *** وكم من رد أهله لم يرم
وفي مصحف عبد الله بن مسعود {إن كدت لتُغوين} بالواو من الغي، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة، ورفع {نعمةُ ربي} بالابتداء وهو إعراب ما كان بعد {لولا} عند سيبويه والخبر محذوف تقديره تداركته ونحوه، و{المحضرين} معناه في العذاب، وقوله المؤمن {أفما نحن} إلى قوله {بمعذبين} يحتمل أن يكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة {أفما نحن بميتين} ولا معذبين، ويجيء على هذا التأويل قوله {إن هذا لهو الفوز العظيم} إلى قوله {العاملون}، متصلاً بكلامه خطاباً لرفقائه، ويحتمل قوله {أفما نحن} إلى قوله {بمعذبين} أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ، كأنه يقول أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب، ويكون قوله تعالى: {إن هذا لهو الفوز} إلى {العاملون} يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وإليه ذهب قتادة، ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ويقوى هذا لأن قول المؤمن لمثل هذا فليعمل، والآخرة ليست بدار عمل يقلق إلا على تجوز كأنه يقول لمثل هذا كان ينبغي أن يعمل {العاملون}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8